ندم الهذيان

هل تعلمون أصعب ما في هذيان امرئ حد الانشطار من الندم؟

ذلك عندما يصل به الألم حد انفلات اللسان من كل ضابط للايقاع، فيدفع الألم بصاحبه إلى الكلام الذي لا طائل منه تحت وطأة زمن ماضي صعب النسيان، وظرف حاضر هو امتداد لما سلف يجعل الماضي حياً كأنه اليوم.

وفي الكلام الذي لا طائل منه الكثير من الجراح واللوم والعتاب، وفي بعض الأحيان يكون الكلام بأسلوب هجومي يعكس مدى خروج صاحبه عن السيطرة، كأنه حصان جامح عصي على الترويض. وقد وصل بي الأمر في بعض الأحيان إلى التمرد على قضاء الله بذاته، وقد قضى الله في وحيه كل ما هو كفيل لترويض إنسانه في أوقات الشدة، إلا هذا العبد الفقير الذي يأبى أن يألف واقعاً مريراً.

وفي اللوم الهجومي الكثير من الأذى لأناس من خاصتي، وبعدما قد قضي ما قضي وقيل ما قيل، لا أجد نفسي إلا في مقام الندم على كل ما فات من لساني، وأنا الذي ما زلت حتى الآن غير قادر على تجرع الألم بطيب خاطر من كأس قذفتها إلى حائط القدر ألف مرة ومرة من قبل، ولا تزال تأبى أن تنكسر فتعفيني من المزيد من شرابها. وأنا الذي لطالما سعيت إلى الإعفاء من نوائب الزمن، يصر الأخير بأدق ثوانيه إلا أن يجعلني في قلب العالم، كأني به لا يبصر أن هذا الإنسان الضعيف قد أضحى في قمة هذيانه، مدفوع بأفكار تجتاح ذهنه وتدمي واقعه بظنون الفصيلة الحمقاء.

لعله لا يبقى في كل هذا السياق إلا أمنية واحدة: أن تسقط وطأة اللوم عمن جمعني الله بهم في هذه الدنيا، برابط الدم والقرابة والوجدان. ما يجعل الحاضر صعب المراس هو أن صاحب النطفة التي بدأ فيها الله خلقي هو في ختام مشواره الدنيوي، والوطأة التي أتكلم عنها قد جعلت واقعه مليئاً بشتى الأحزان والتشتت، وإن أسأل عن أعظم ما قد أصبو إليه عند الله لكان أن يجعل انتقال الوالد إلى الرحمة العليا مليئاً بالسلام والسعادة والسكون والاطمئنان إلى الباقين من بعده وإلى ما سيتلو في عالم البرزخ. ذلك أن الله لا يعذب من يصطفي من البشر، وبشكل أو بآخر اصطفى الله والدي بحساب دنيوي ربما لدفع شتى أنواع الذنوب قبل الانتقال. وفي كل ذلك، أفرح لما قد جعل الله وأشمت في كل الشامتين من أصحاب النميمة والاستغابة ذوي الألسنة الطويلة، لأن العبرة في حكم الله لا في أحكام البشر. وأما حكم الله واصطفاؤه فجليان للعيان والقلوب.

وأما الهذيان فيأبى الإنقطاع. لعله جزء من قضاء الله في مسيرة هذا العبد الفقير، ولوظيفة هي في علم الله دون علم البشر. ولعل أعظم وظيفة للهذيان هي الإطباق على كل تأويلات البشر وجعلها هباءاً منثوراً، كي لا يكون أحد في صدد التلصص على ما في قضاء الله.

لعل ما في قضاء الله عظيم. لا بد أنه عظيم، فما يأتي من العظيم إلا العظيم، وما يأتي من دونه إلا توهم العظمة.

وأصحاب الأوهام ساقطون. وأصحاب اليقين لهم الكلمة العليا.

طوبى لأصحاب الهذيان أصحاب اليقين.

عتاب من حبيب لرب محبوب

سيدي وصاحب قضائي

لطالما تذمرت على قضاء خططته في خريطة القدر حتى قبل أن أولد، وحجتي في ذلك أن لم تجعل لي مع قضائك بعضاً من الصبر في قلبي عندما صورتني في رحم والدتي. بأي عين تراك تنظر إلي؟ هل تنظر بعين إحاطة ورأفة؟ أم تنظر بعين سخط ولوم؟ أم تنظر إلى بعين التعجب والاستنكار؟

سيدي ومالك رقي

لطالما اعتقدت أنني أثبت جدارتي عندما تمنيت الموت، وأنت الذي أوحيت ووحيك الحق تحدياً لإثبات الجدارة “أن تمنوا الموت إن كنتم صادقين”. لكنني يا إلهي ذهبت أبعد من ذلك، ذهبت بألمي وإحباطي حد اقتراح أن يكون نصيبي من نعيم ثمناً لإقناعك برحيل مبكر. وألا يؤشر ذلك يا سيدي على أن الألم أعظم من أن يطاق؟ وألا يدل ذلك يا سيدي على أن الجرح أعمق من أن يلتئم؟ وألا يوحي ذلك يا سيدي بأن عبدك الفقير غير قادر على الصبر على تكالب كوني طال زمنه؟

سيدي وعالم سري

عندما سموت بجوارحي في ظرف من الزمان والمكان، أطلقت لك وعداً صادقاً: أن لا أضل عن سبيلك أبداً ما حييت وما بقي الليل والنهار، ولن أكون في أي وقت مزهواً بإملاءات إبليس في ذهني. وهل بعد ذلك تكون انفعالاتي بإملاء من إبليس، بعد أن اجتاح السقم عقلي بدافع الألم الذي طال؟ وأليس السقم يا سيدي نتاجاً لقضاء مزق كياني وأزهق طموحاتي وعمّق جراحي؟ وأليس استمرار هذا السقم هو بفعل استمرار البلاء وظروفه التي تمعن في تدمير ما تبقى من طاقة في هذا البدن المتهالك؟

سيدي وولي نعمتي

أهذي إليك في هذا النص لأن لساني قد ثقل بشكل جعل للصلاة جهداً فائقاً عليّ، ولأن ظهري قسمته الظروف والأحداث فأضحى سجودي لك يكلفني ألماً فوق ألمي. تراك تبعدني عندك بعد إذ أدنيتني؟ أم تمنعني عن ذكرك بعد أن ذرفت الدموع في حبك صدقاً؟ أم تنبذني بعد أن نبذت قضاءك وأعلنت التمرد على ظرف لا أطيقه؟ ألا يكون لي قول في قضاءك دون أن يكون بديل بلاءات أعظم؟

سيدي يا من بثثت الروح في جسدي

هل تجازيني على ضيق خلقي بلاءات إضافية؟ هل تمنع عني إجابة أعظم أدعيتي إليك في من تخلف من بعدي؟ وإن كنت فاعل ذلك فلم جعلت لي قلباً يتقن الجوارح ولم نجعل لي قلباً يقسو فلا يبالي بشيء من هذه الدنيا؟

سيدي ومولاي

إنني دافع إليك يوم ألقاك باثنتين، أولاهما أنني أثبتت حبي في ظرف ماض من حياتي في دموع عشق صادقة، وثانيها أنني كنت دافع بفنائي حجة كي تعفيني من سيرورة في هذه الدنيا. وكل الأمل أن يكون الأمرين سبباً لحسن الضيافة والمقام. وإن شئت أن تقبل بالثانية، فاعلم أن الوجود قد ثقل على كاهلي لدرجة أن الفكرة محببة في ذهني. كأني لا أتصور راحة حتى في نعيم.


قد طال الانتظار يا سيدي، فلا تطله أكثر بعد الآن

مقدمة الهذيان

السبت في الثامن من كانون الثاني يناير 2022

لعل أصعب ما قد يمر به امرؤ هو الهذيان، فما بالكم بحال بشر قد أضحت حياته سلسلة من الهذيان المتواصل. في السياق يبدر الكثير من الرجل: سرعة الإنفعال، كثرة التشنج، فورة العصبية والغضب من المحيط لأصغر الأسباب، بعض من الشتائم التي يندى لها الجبين، وانهيار كينونة الإنسان بالكامل. لقد حصل أن دخلت دائرة تمني الفناء للفصيلة بأكملها، وكان ذلك قمة هذياني.

من المؤكد أن الناس يقعون في حيرة من أمري. لا يفقهون خفايا هذا الإنسان الرافض للبلاءات رفض الطفل لوصايا والديه. نعم، أنا أقر بأن البلاء هو بمثابة الدرس الذي يلقنه الله للإنسان، وهو الذي يدبر بعد كل بلاء انفراجات عظيمة تكون خليقة بصبر العباد. ومع إقراري بذلك، أعترف أيضاً بأنني لطالما امتهنت رفض الامتحانات الإلهية حد اقتراح نيل الفناء كفدية مقابل إحقاق الرحيل عن هذا العالم اللعين. لن يفقه أحد مغزى هكذا اقتراح على الذات الإلهية، ربما لأن الجميع يعتقد بأن العالم وساكنيه يمتلكون جدارة اللذة. سحقاً لذلك!

الهذيان ليس غريباً عن مجتمع البشر، لست بأول من يهذي ولن أكون الأخير. قد يذكر البعض نيتشه من جملة من مارس الهذيان بشكل منقطع النظير. بشر هذا الأخير باصطفاء الإنسان القوي ونظّر لموت الإله، كما سخر وطعن في كل الفلاسفة الأخلاقيين من مثال كانط. من الجلي لكم أيها المشاهدون على مسرح الحياة شدة الهذيان في هذين التبشير والتنظير. انتخاب الإنسان القوي سيعني بشكل أو بآخر نهاية الحياة البشرية على الكوكب، وموت الإله المراد يعني بشكل أو بآخر أن الإنسان قد لحق بركب الفناء إلى الأبد فلا آخرة ولا أرواح خالدة. في أيام خلت، كنت على النقيض من هذا الرجل بشكل صارخ. كنت من أعظم من حمل لواء الإيمان، وما تفوهت به شفتاي في بعض صلواتي كان صبواً إلى الإنسان المتسامي القوي بشهامته وأخلاقه والمتصالح مع الكون الذي يعيش فيه. إنه باختصار ذلك الإنسان الذي يثأر من الشيطان وجنوده الذين عاثوا في تاريخ البشر فساداً وإفساداً، وأعظم الثأر عودة أحلام المسيح المقدسة في نشوء مملكة الله على كوكب الأرض. إنه الإنسان الذي يزدري بالسلطة ويطمس المنتشين بها، وهو الذي ينادي بقوة الحق ويعلن على الملأ أن لا حق في القوة التي لا ترضي الله والتي تدمر دون أن تبني. إن الذين يبنون سلطانهم على تعاظم القوة وعلى تراكم قوة التدمير هم على النقيض من ذلك، وهؤلاء هم جنود الشيطان وعبيده، ذلك أن من يعتمد على قوة التدمير وسيلة لتكريس الواقع الذي يصبو إليه لن يصل إلا تدمير كوكب الأرض وقتل الحياة بكل أشكالها. الحقيقة هي أن هذيان نيتشه في تمجيده للإنسان القوي كان نابعاً من الجنون، فيما هذياني في الصبو إلى مملكة الله على الأرض ما كان نابعاً إلا من أحلام مقدسة، كان نصيب كل من حملها في كيانه في السابق القتل والتقطيع والصلب. لا جرم أن الإنسان القوي يمقت الإنسان الحالم. لا جرم أن نيتشه كان ليمقتني وأنا أصلي خاشعاً آناء الليل والدموع تنهمر من عينيّ. لكن ذلك لا ينفي أمراً جوهرياً، وهو أن الإنسان الحالم خالد بأحلامه في كل شكل من أشكال الحياة قد ينبثق بعد رحيل البشر، وكل ما عداه فانٍ عن حق، وذلك هو ثمن ازدرائهم لقداسة الروح والحياة.

لعل لكل هذيان أثمان باهظة. وآمل أن لا أدفع أثماناً تراكمت على هذياني.

ادعوا لي عند الله ذلك، قد أكون بحاجة لدعواتكم.

سيتبع الكثير عن الهذيان، فشدوا الأحزمة بشكل جيد.