رسائل إلى طفلتي فاطمة: الرسالة العاشرة

الخميس في الثاني والعشرين من شباط 2024 الساعة السابعة مساءاً

طفلتي العزيزة،

أود أن أجعل هذه الرسالة مقاماً للتوصية بأمر فيه شفاء لك من كل سقم قد يلحقك في الدنيا. هذا الأمر إن منحني إياه الله فيك لاطمننت أني مخلف ورائي ذرية سليمة يجعل لها الله قسماً من السعادة والطمأنينة في الدنيا. الأمر المعني من شأنه أن يعرّف مفهوماً للسعادة إنما هو المفهوم الأصح، ولو تسألي أي ملهم خبير في قضايا الإنسان لأجاب بالإيماء على ذلك.

بداية الكلام هو في ظرف نعيشه كلنا كعائلة صغيرة على غاية عظيمة من الاستثنائية. كان من أثر هذا الظرف الكثير من السلبية في سلوكي، وهو أمر ذكرته في رسائل سابقة سائلاً إياك الصفح عن كل الغضب والعصبية التي حكمت حياتنا في صغرك. اعلمي يا صغيرتي أن هذا الظرف كان معاكساً لارادتي طوال حياتي، وكنت رافضاً له لأن طبيعته لها نتائج طبيعية في جعل حياتنا سلبية. وبواقع الحال، لا إرادة لي في هذا الظرف وهو بشكل ما جزء من قضاء الله لأمر عظيم قد يكون مخطوطاً في القدر. ومن نتائج هذا الظرف أنك أيضاً يا بنيتي مصطفاة من الله بطريقة أو بأخرى، وستعيشين واقعاً استثنائياً للغاية يجعلك عرضة للكثير من التحديات الجسيمة. واستشراف هذه التحديات هو جزء مما جعلني أعاند الظرف المعني محاولاً التحرر منه.

طفلتي العزيزة، أحد تلك التحديات الأعظم هو جعلك تحت المجهر وعلى مرأى ومسمع شريحة عظيمة من الناس. وهذا نوع من الإصطفاء الذي لا أدري ما سيكون موقفك منه عندما تكبرين. لطالما حاولت أنا التمرد على هذا الإصطفاء لكن دون جدوى. وأود أن أعلمك أن هذا التمرد قد أرهقني لدرجة السقوط في دوامة من العصبية الدائمة. نصيحة أقدمها لك هي ألا تحاولي أن تتمردي، وأن تعلمي ما لم أصل إليه أنا، ألا وهو استنباط وسائل الاستفادة من هذا الظرف لخدمة الله والحق ونفسك وعائلتك.

أحد التحديات الأخرى هو فرضية سقوط في التغرر بالدنيا إذا ما جمحت حالك إلى التطرف في الموقف. وهنا جوهر الأمر الذي أود أن أسأل الله في هذه الرسالة على مرأى منك، وهو أن لا تغتري بالدنيا لأي سبب من الأسباب وتحت أي ظرف. لعل الزمن الحاضر من أقسى الأزمنة على المربين، ذلك أن الأجيال الجديدة عرضة للكثير من الإغراءات الدنيوية التي قدرها الأول أن تعرضهم للسقوط  والفشل. قد تغترين بالكثير من مشاهد نظرائك من الإناث المتبرجات بشتى أنواع الزينة الدنيوية، وقد ترغبين ذلك أيضاً. إن يكن بمقدورك، اقرأي مقالاً آخر كتبته في السابق على المدونة في سلسلة “ما هو الإسلام” أتكلم فيه عن مقصد الله في إملاء الحجاب على الأنثى. اقرأي ذلك المقال كي لا تقعي في كره المفهوم السائد والتقليدي للحجاب الذي قد لا تجديه محبباً.

اعلمي أن السعادة لا تكون في الدنيا، ولا في التبرج، ولا في اللبس الفاضح ولا في إغراء الرجال. السعادة لا تكون في السهر في الحفلات، والرقص، والاستماع للأغاني الصاخبة التي يغنيها زير نساء هنا وامرأة غانية هناك. السعادة لا تكون في مواعدة الرجال بالطرق المبتذلة في جو من المراهقة حتى عند البالغين. السعادة لا تكون في السعي إلى المال بصفته غاية بحد ذاتها. لن تجدي السعادة في أي من ذلك، بل لن تجدي في أي من ذلك إلا الكآبة والوضاعة والذل والعبودية لكل ما هو كريه.

السعادة تكون في القناعة بما يقسم لنا الله في الدنيا، وكما يقول المثل “القناعة كنز لا يفنى”. السعادة تكون في حفاظك على اتزانك ورصانك، الأمر الذي من شأنه أن يجعل لك مقاماً محموداً في الدنيا وشأناً عظيماً في الآخرة. والإتزان والرصانة يستوجبان الاحتشام في اللبس وترك التبرج ونبذ المراقص. السعادة تكون في الاستماع للموسيقى التي تضفي معنىً للحياة، من مثال ما يقربك من الله ويحيي وجدانك، وأول ما يؤشر على هذه الأمور هو هوية من يؤدي هذه الموسيقى، إن كان على درجة من الصدق ويشبهك في رصانتك واتزانك. السعادة تكون في التمعن في كل رجل يحاول التقرب منك وسبر أغواره والسؤال: “هل هو رجل لعوب أم رجل متزن؟”. اعلمي أن اختيار شريك حياتك هو أمر منوط بك وحدك، وأنني وأمك بصدد الاستشارة فقط. وأعلمي أن بقدر ما تكتسبين من علم وخلق حسن بقدر ما يجمعك الله بشريك من طينتك على قدر من العلم والخلق الحسن. ومن هنا التوصية الأخيرة، السعادة تكون في حب العلم، وإن تعرضي عن طلب العلم في أي وقت من الأوقات تتوقف حياتك وتكون سعادتك على المحك. كوني محبة للعلم على اختلاف أنواعه، واجتهدي في تحصيله تنالي كل السعادة التي تبتغين. أما المال فهو وسيلة من وسائل الحياة فلا تجعليه غاية بحد ذاتها. وهي وسيلة ستكون متاحة متى اكتسبتي قدراً كافياً من العلم.

حافظي يا بنيتي على حجابك فهو من أعظم ما يختصر كل ما جاء أعلاه، إنما يدل على ماهيتك الوجدانية والإيمانية والروحانية. الحجاب وسيلتك لترويض النفس البشرية المتغررة بالدنيا، إن حافظت عليه تحافظين على كل الإتزان والرصانة المتوجبة للنجاح في الحياة. ولا تظني إن الحجاب عائق بأي شكل من الأشكال على الخوض في الحياة، فإن صادفت وظيفة على سبيل المثال تضع حجابك منيعاً أمام ممارستها اعلمي أن تلك الوظيفة ليست بالأساس جديرة، وأن أصحابها عنصرين كريهين لا جدوى من العمل معهم. وإياك أن تقارني نفسك مع أي أحد من نظرائك وأقاربك، قارني نفسك مع الصورة التي يرضاها الله لك حصراً. ولعل أعظم وقود لحفاظك على حجابك هو اتخاذك القدوة الحسنة، وأعظم تلك القدوات هي المرأة التي تحملين اسمها وشهرتها، فاطمة الزهراء الهاشمية بنت نبيك فاجعليها ملهمة لك في أي صعوبات الحياة وتحدياتها.

قد يجعلك الله في ظل الظرف القائم أيضاً قدوة لنظرائك من الإناث. ومما أراه في محياك فأنت تمتلكين ملامح القيادة وكل مؤهلاتها. تختارنا بعض الأمور أحياناً في الحياة دون أن نختارها. وكما اختارتني بعض الظروف دون أن أختارها، قد اختارك الله بطريقة أو بأخرى للاصطفاء فتكونين مؤهلة للعب دور عظيم في الإلهام على مسرح الحياة. وما تختاره الحياة لك أرى من أمره أن يجعل لك شأناً عظيماً في الدنيا، فتبصري في ذلك ولا تعانديه. كوني على قدر الإسم والنسب اللذين تحملين، وعلى قدر الظرف الذي اصطفاك الله فيه. واعلمي أن مهما يحصل في الحياة سيكون خير. كنت أدعو الله في زمن مضى أنه لو قضى لي أن تذري الرياح ذرات جسمي فأختفي من الوجود لحمدته حمداً كثيراً. كل ما في قضاء الله محمود، وكل ما في بلاءاته اصطفاء ونعمة. فلا تقعي في ما وقعت فيه أنا من ضلال بسبب جرح عميق تملكني، وأتمنى لك كل الصحة والعافية بعيداً عن أي جرح وأي بلاء.

تبصري يا بنيتي في كل الكلام أعلاه، واعلمي أن فيه خلاصك في الدنيا والآخرة وفيه سعادتك المضمونة.

اصفحي عني يا طفلتي بسبب العصبية التي جعلتك تعيشينها في طفولتك. عسى أن أعوض عنك في الزمن القادم وعندما تكبرين.

تذكري دائماً أنني بجانبك ناصحاً محباً عطوفاً ذاداً حامياً مواكباً خائفاً عليك.

والدك المحب دائماً.

كوني نوراً، كوني وردة، كوني فخراً لأبيك.

ندم الهذيان

هل تعلمون أصعب ما في هذيان امرئ حد الانشطار من الندم؟

ذلك عندما يصل به الألم حد انفلات اللسان من كل ضابط للايقاع، فيدفع الألم بصاحبه إلى الكلام الذي لا طائل منه تحت وطأة زمن ماضي صعب النسيان، وظرف حاضر هو امتداد لما سلف يجعل الماضي حياً كأنه اليوم.

وفي الكلام الذي لا طائل منه الكثير من الجراح واللوم والعتاب، وفي بعض الأحيان يكون الكلام بأسلوب هجومي يعكس مدى خروج صاحبه عن السيطرة، كأنه حصان جامح عصي على الترويض. وقد وصل بي الأمر في بعض الأحيان إلى التمرد على قضاء الله بذاته، وقد قضى الله في وحيه كل ما هو كفيل لترويض إنسانه في أوقات الشدة، إلا هذا العبد الفقير الذي يأبى أن يألف واقعاً مريراً.

وفي اللوم الهجومي الكثير من الأذى لأناس من خاصتي، وبعدما قد قضي ما قضي وقيل ما قيل، لا أجد نفسي إلا في مقام الندم على كل ما فات من لساني، وأنا الذي ما زلت حتى الآن غير قادر على تجرع الألم بطيب خاطر من كأس قذفتها إلى حائط القدر ألف مرة ومرة من قبل، ولا تزال تأبى أن تنكسر فتعفيني من المزيد من شرابها. وأنا الذي لطالما سعيت إلى الإعفاء من نوائب الزمن، يصر الأخير بأدق ثوانيه إلا أن يجعلني في قلب العالم، كأني به لا يبصر أن هذا الإنسان الضعيف قد أضحى في قمة هذيانه، مدفوع بأفكار تجتاح ذهنه وتدمي واقعه بظنون الفصيلة الحمقاء.

لعله لا يبقى في كل هذا السياق إلا أمنية واحدة: أن تسقط وطأة اللوم عمن جمعني الله بهم في هذه الدنيا، برابط الدم والقرابة والوجدان. ما يجعل الحاضر صعب المراس هو أن صاحب النطفة التي بدأ فيها الله خلقي هو في ختام مشواره الدنيوي، والوطأة التي أتكلم عنها قد جعلت واقعه مليئاً بشتى الأحزان والتشتت، وإن أسأل عن أعظم ما قد أصبو إليه عند الله لكان أن يجعل انتقال الوالد إلى الرحمة العليا مليئاً بالسلام والسعادة والسكون والاطمئنان إلى الباقين من بعده وإلى ما سيتلو في عالم البرزخ. ذلك أن الله لا يعذب من يصطفي من البشر، وبشكل أو بآخر اصطفى الله والدي بحساب دنيوي ربما لدفع شتى أنواع الذنوب قبل الانتقال. وفي كل ذلك، أفرح لما قد جعل الله وأشمت في كل الشامتين من أصحاب النميمة والاستغابة ذوي الألسنة الطويلة، لأن العبرة في حكم الله لا في أحكام البشر. وأما حكم الله واصطفاؤه فجليان للعيان والقلوب.

وأما الهذيان فيأبى الإنقطاع. لعله جزء من قضاء الله في مسيرة هذا العبد الفقير، ولوظيفة هي في علم الله دون علم البشر. ولعل أعظم وظيفة للهذيان هي الإطباق على كل تأويلات البشر وجعلها هباءاً منثوراً، كي لا يكون أحد في صدد التلصص على ما في قضاء الله.

لعل ما في قضاء الله عظيم. لا بد أنه عظيم، فما يأتي من العظيم إلا العظيم، وما يأتي من دونه إلا توهم العظمة.

وأصحاب الأوهام ساقطون. وأصحاب اليقين لهم الكلمة العليا.

طوبى لأصحاب الهذيان أصحاب اليقين.

عتاب من حبيب لرب محبوب

سيدي وصاحب قضائي

لطالما تذمرت على قضاء خططته في خريطة القدر حتى قبل أن أولد، وحجتي في ذلك أن لم تجعل لي مع قضائك بعضاً من الصبر في قلبي عندما صورتني في رحم والدتي. بأي عين تراك تنظر إلي؟ هل تنظر بعين إحاطة ورأفة؟ أم تنظر بعين سخط ولوم؟ أم تنظر إلى بعين التعجب والاستنكار؟

سيدي ومالك رقي

لطالما اعتقدت أنني أثبت جدارتي عندما تمنيت الموت، وأنت الذي أوحيت ووحيك الحق تحدياً لإثبات الجدارة “أن تمنوا الموت إن كنتم صادقين”. لكنني يا إلهي ذهبت أبعد من ذلك، ذهبت بألمي وإحباطي حد اقتراح أن يكون نصيبي من نعيم ثمناً لإقناعك برحيل مبكر. وألا يؤشر ذلك يا سيدي على أن الألم أعظم من أن يطاق؟ وألا يدل ذلك يا سيدي على أن الجرح أعمق من أن يلتئم؟ وألا يوحي ذلك يا سيدي بأن عبدك الفقير غير قادر على الصبر على تكالب كوني طال زمنه؟

سيدي وعالم سري

عندما سموت بجوارحي في ظرف من الزمان والمكان، أطلقت لك وعداً صادقاً: أن لا أضل عن سبيلك أبداً ما حييت وما بقي الليل والنهار، ولن أكون في أي وقت مزهواً بإملاءات إبليس في ذهني. وهل بعد ذلك تكون انفعالاتي بإملاء من إبليس، بعد أن اجتاح السقم عقلي بدافع الألم الذي طال؟ وأليس السقم يا سيدي نتاجاً لقضاء مزق كياني وأزهق طموحاتي وعمّق جراحي؟ وأليس استمرار هذا السقم هو بفعل استمرار البلاء وظروفه التي تمعن في تدمير ما تبقى من طاقة في هذا البدن المتهالك؟

سيدي وولي نعمتي

أهذي إليك في هذا النص لأن لساني قد ثقل بشكل جعل للصلاة جهداً فائقاً عليّ، ولأن ظهري قسمته الظروف والأحداث فأضحى سجودي لك يكلفني ألماً فوق ألمي. تراك تبعدني عندك بعد إذ أدنيتني؟ أم تمنعني عن ذكرك بعد أن ذرفت الدموع في حبك صدقاً؟ أم تنبذني بعد أن نبذت قضاءك وأعلنت التمرد على ظرف لا أطيقه؟ ألا يكون لي قول في قضاءك دون أن يكون بديل بلاءات أعظم؟

سيدي يا من بثثت الروح في جسدي

هل تجازيني على ضيق خلقي بلاءات إضافية؟ هل تمنع عني إجابة أعظم أدعيتي إليك في من تخلف من بعدي؟ وإن كنت فاعل ذلك فلم جعلت لي قلباً يتقن الجوارح ولم نجعل لي قلباً يقسو فلا يبالي بشيء من هذه الدنيا؟

سيدي ومولاي

إنني دافع إليك يوم ألقاك باثنتين، أولاهما أنني أثبتت حبي في ظرف ماض من حياتي في دموع عشق صادقة، وثانيها أنني كنت دافع بفنائي حجة كي تعفيني من سيرورة في هذه الدنيا. وكل الأمل أن يكون الأمرين سبباً لحسن الضيافة والمقام. وإن شئت أن تقبل بالثانية، فاعلم أن الوجود قد ثقل على كاهلي لدرجة أن الفكرة محببة في ذهني. كأني لا أتصور راحة حتى في نعيم.


قد طال الانتظار يا سيدي، فلا تطله أكثر بعد الآن

رسائل إلى طفلتي فاطمة: الرسالة التاسعة

الأحد في الثالث والعشرين من نسيان 2023 الساعة الحادية عشر صباحا

طفلتي العزيزة،

أكتب لك هذه الرسالة وفي قلبي الكثير من الحزن، وكل أملي أن تكوني في وقت قراءة هذه الرسالة في كامل عافيتك وقوتك وعاطفتك. سبب حزني هو أنني فشلت في الالتزام بوعدي بتغيير طباعي وما زلت أتطبع بالكثير من الانفعالية. حزني نابع من كوني أرى في عينيك الانكسار والضعف. أقر لك يا بنيتي أنني كائن على شيء من الضعف، وأن الضغوط التي أتعرض لها من الخارج تجعلني انفعالياً، وأنني لا أقارب هذه الضغوط بحلم عظيم. لم أعد أرى بلسماً لرداءة ظروفي وأثرها السلبي عليك إلا أن أدعو الله قانتاً وهذا ما فعلته اليوم في صلاة الصبح. للأسف أنك تتعرضين للكثير من المواقف المحزنة يا بنيتي، وآمل أن يمحوها الزمن من ذهنك مع مرور الوقت. عندما أنظر إليك أرى أملاً بشيء من القوة والمتانة والرصانة في محياك، وهذا ما أعول عليه بكل جوارحي. دعوت الله في صلاة الصبح اليوم أموراً ثلاثة: أولها أن يجعلك على قلب واحد مع أخيك حسين، لأنني مما أرى أجزم أنك لن تنعمي بسند أعظم منه في حياتك بالرغم من خصامك له في الوقت الحالي بسبب غيرة الطفولة. ثانيها أن يجعل الله كلاكما على هدي عظيم لأنني أعلم تمام العلم أن حياتكما بدون الإيمان بالله والركن إليه ستكون جحيماً، فتيقني من ذلك واعلمي أن أي جنوح لك عن هذا الإيمان سيفطر قلبي. ثالثهما أن يهب الله لك ولأخيك كل ما تحتاجان في الحياة منه وحده لا من دونه من البشر، من الرزق والعلم والرفقة الحسنة والقناعة بما عند الله. ولو تتبصري في ما سألت الله لكما تعلمي أني سألت الله أعظم ما قد يسهل لكما مسيرتكما في الحياة الدنيا، وفي ما سيأتي سأستفيض قليلاً في هذه الأمور.

أولها أود أن أقر لك بأن انفعاليتي هي من أعظم ما يسبب الجو المشحون بينك وأخيك، مقروناً بشيء من الغيرة من قبلك. بالإضافة إلى أن الله جعل حسين أخيك على قدر عال من الظرافة التي تسبب فيك الغيرة، إلا أنك أيضاً تنفرين منه كلما علا صوتي عليك وتصرفت معك بعصبية بسبب الفوضى التي تخلفينها. كأنك تظهرين كرهه استنكاراً لتصرفي المقيت والذي أسأل الله وأسألك أن تصفحا عني فيه. وفي هذا الصدد، إن كان من أمر أدعو الله أيضاً به فهو أن يهب لك عندما تتزوجين وتنجبين أطفالاً طفلا كما كان حسين، تعويضاً عن كل الحزن الذي قد تسببه الظروف السلبية لحياتنا في طفولتك. وكوني على ثقة أن لا سند لك في الحياة كما هو حسين، فكوني له ناصحة وكوني له صديقة، واقصديه كي تنعمي بحلاوة رابط الدم الذي آمل أن يقترن بشيء من العاطفة.

ثانيها تيقني يا صغيرتي أن لا حياة لك بدون الإيمان بالله. هل تعلمين أنني رأيت مناماً عندما كنت في رحم أمك كأنها قد أجهضتك. وكان رد فعلي على هذا الأمر أن افترشت الصلاة ودعوت الله قائلاً له أنك ملك له لا ملك لي، وأنه إن أراد أن يأخذك مني قبل أن تولدي فذلك لأن يهز إيماني بأي شكل من الأشكال. وبعدها عاهدت الله أنه إن جعلك تبصرين النور، سأدعوك “فاطمة” كي يكون الإسم نذراً وأملاً بحياتك. تيقني يا فاطمة أن لا حياة لك بدون الله ينفخ في روحك الهدي والإيمان، وأن الله لا ينفخ الهدي والإيمان إلا إذا كان الإنسان طالباً لهما. فعندما تبلغين الحلم اطلبي ذلك من الله، واعلمي ما يترتب من ذلك عليك من واجبات العفة والزهد ونبذ الدنيا وزينتها وحب ما عند الله والإكتفاء به..

ثالثهما دعوت الله أن يجعل لك ولأخيك كل ما يصلح أمر دنياكما ويجعل لكما صحيفة مميزة في الآخرة. دعوت الله أن يهب لكما الرزق كي لا تقتر معيشتكما. ودعوته أن يهب لكما العلم الذي لا رزق من دونه، فاعلمي أن الحياة من دون العلم لا قيمة لها ولا غاية لسيرورتها وأن انقطاع العلم يعني انقطاع كل ما في الحياة من لذة ربانية وأمل وجداني. لذلك أعطي العلم كل الوقت في أول عمرك ولا تلتهي بأي شيء آخر، فأول العمر توضع فيه أسس بنيان حياتك، فبقدر ما تعلمين أهمية وقتك في هذه المرحلة بقدر ما ستكونين على نجاح عظيم. وأخيراً دعوت الله أن يهب لك الرفقة الحسنة وأعظمها الزوج الصالح الذي يحترمك ويوجب لك احترامه، وأنا على يقين أن سيكون لك نصيب في ذلك. فتبصري يا بنيتي في ما أتى في رسالة سابقة، واعلمي أن جهالة الفتيات تضيع لهن كل الحياة، فأربأ بك أن تصبحي في يوم ما على جهالة. واعلمي أن أعظم ما يحيي وجدانك وروحك ويجلب لك السعادة هي العفة وانتظار الشخص المناسب لبناء شراكة معه في الدنيا والآخرة. فتبصري جيداً عندما تجدين نفسك في صدد اختيار هذا الشريك، وانظري في روحه وعقله وقلبه، واجعلي الإيمان شرطاً لقرانك به، كما اجعليه شرطاً لكل صداقة تودينها مع بشر، فإن صادقت من فيه فساد فلن يجلب لك سوى الهوان والذل والإفساد.

وفي النهاية، أودك أن تعلمي أنني أحبك كثيراً.

كوني على يقين دائم أن حبك في قلبي من أعظم ما يكون، وتيقني أنني سأكون دائماً بجنبك طالما أطال الله بعمري، سنداً وعضداً لك وناصحاً ومرشداً، فتقبلي مني كل ذلك واعلمي أن ذلك لن يجلب لك سوى الفوز العظيم إن تبصرت به جيداً.

كوني وردة، كوني نوراً، كوني فخراً لأبيك

أبوك المحب دائماً

ما هو الإسلام؟ نص لا ينصح به للملحدين ولا للعقول المتحجرة من عباد الأصنام البشرية – عصارة التاريخ

في معتقدي أن أحداث الماضي وسيرورة التاريخ والحظوظ في الاصلاح في مآلات المستقبل مخفية في زوايا التاريخ. ولأن التاريخ يكتبه المنتصر، وبما أن الشيطان انتصر في غالب الأحيان، كانت مشيئة الله أن تختفي تلك الحظوظ طوال زمن ما دون أن يهمل الله كلمته. الله يمهل ولا يهمل، وكما طلب الشيطان إمهاله إلى يوم موعود متحدياً الله ومخلوقه الجديد، حق على الله أن يمهل من شط إثباتاً لمقاصده في من خلق.

وفي معتقدي أن من أكثر بديهيات تلك الأحداث ليلة حزينة ربما لا يدرك بها أي بشر. إنها الليلة التي فتح فيه الشيطان معركته على مصراعيها على رسالة جديدة في دين الله الكوني مراد لها أن تكون حياةً للإنسان. الظروف كانت عصيبة وحظوظ الشيطان في الظفر كبيرة، ولم يبقَ من رجال الله المجاهدين الأوائل إلا القلة، وعمادهم وصي النبي على رسالته وربيبه ومن ارتضاه زوجاً لعزيزته وأبا لذريته. 

كان علي جاثماً على مرقد النبي والظلام دامس، يشكو إلى صاحب الرسالة الأخيرة قتامة الظروف وحملة الشيطان العظيمة لطمس تلك الرسالة والسيادة على كل التاريخ القادم. كانت تلك الليلة بعد استشاهد عثمان ببضعة أيام وبعد انجلاء الغبار عما ستؤول إليه الأمور. لعل علياً كان يناجي معشوقه وسيده في تلك الليلة:

يا رسول الله، يا سيدي ومولاي وأبي… قد حل ظرف عصيب رسالتك فيه بخطر. قد غاب من كان لك نصيراً، وحل من كان لك معادياً ومبغضاً. 

يا رسول الله، لم أكن أبالي في ما سبق من الماضي القريب ولم تكن لتبالي أنت، لأن ضياع مقاصدك أدراج السوء ما كان مهدداً لرسالتك ودين الله الأعظم. عندما حل السوء في بعض الأحداث التي لم تصب، فضاعت وصيتك وساءت بعض شؤون المسلمين، حملت وصيتك على كتفي وكنت للخلفاء ناصحاً ومرشداً ومقرراً، كنت القاضي واليد اليمنى لأن السوء كان يتلاشى مع الكثير من الذكريات الجميلة.

كلما كنت أحل على أبي بكر كان يتسارع إلى ذهني ترتيله للقرآن عندما لم يكن من مسلمين إلا أنت وأنا وأبي بكر. لم أكن لأتناسى قط أول ترتيل للقرآن بصوته الجميل الذي كان يملأ أمسياتنا بكلام الوحي وكنت ما زلت فتياً. لما أكن لأتناسى أن مهد رسالة الإسلام الأخيرة كان بآناء ليالٍ قضيناها نحن الثلاثة نحلم بسيادة الإيمان على أمة العرب.

وكلما كنت أحل على عمر كان يتسارع إلى ذهني كل مناسبة دفع فيها سيفه حد سيف باتر لطرف لي، وكل معركة كان فيها ظهره حامياً لي وظهري حامياً له. لما أكن لأتناسى وحدة الجهاد في سبيل الله، وكم تناقلنا الراية في أكثر من معركة فكانت راية واحدة وهي إعلاء كلمة الله فوق كلمة المشركين وسيادة الإيمان يالله الواحد على السجود لأصنام لا تنطق ولا تغني ولا تدفع من سقم.

وكلما كنت أحل على عثمان كان يتسارع إلى ذهني تكبير وتهليل بني هاشم محاصرين في شعاب مكة، وقد أدركهم عثمان بقافلة تدفع عنهم الجوع والعطش والسوء. ما كنت لأتناسى صوتي وهو يعلو بالتكبير مهللاً لغوث الله آتياً على يدي عثمان معانداً قومه من أجل نصرة الإسلام والمسلمين وإعلاء كلمة الله.

ما كنت أبالي بسوء هنا وسوء هناك لأن السوء كان يتلاشى مع الكثير من الذكريات الجميلة، ولأن أخطاء حاضر لا تنفي مآثر الماضي التي ما قام للإسلام قيامة من دونها.

قد غاب يا رسول الله ما كان لك نصيراً، وحل من كان لك عدواً ومبغضاً ومقاتلاً.

قد غاب صحابتك وحل بن هند قاتلة حمزة وآكلة كبده. قد حل بن هند الذي ما دخل الإسلام إلا مكرهاً وما صفحت عنه وأبويه إلا لأنك نبي ذي حلم عظيم. ولو لم تكن نبياً لكان بن هند الآن مع والدته ووالده في قبور قد حل فيها نار عذاب أليم.

أشعر يا رسول الله بثقل الزمن. أشعر أن الشيطان سيسود زمناً طويلاً من بعدي وأن مقاصدك سوف تضيع وأن رسالتك سوف تكون رهناً لمبغضيك. أشعر أن خسارة المعركة المقبلة تعني أن بن هند سيكتب تاريخ الإسلام من بعدنا وسيعيث في هذا التاريخ فساداً وإفساداً وتزويراً وبهتاناً.

لعلها سنة الله في مخلوقيه أن يجعل الشيطان سيداً على الزمن. ولعلك كنت تعلم ذلك في نبوءة لك، أن سيأتي في آخر الزمن رجل من ذريتك يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلما وجوراً. لو كان قدر الأتقياء أن يكونوا أئمة بين الناس لما كان الزمن ليفسد ولما كانت الأرض لتملأ ظلماً وجوراً. كأنك كنت تعلم يا رسول الله أن التاريخ القادم سيكون سيده الشيطان وجنوده، وأن رسالتك سيمعن فيها بن هند فساداً وخراباً.

لعلك كنت تعلم أن الفرقة ستكون، وأن العقيدة ستملؤها الغشاوة، وأن المنطق سيصبح رهينة الزيغ. لكن الله يمهل ولا يهمل.

سيأتي رجل يعيد الدين إلى أصله، ويرفع رسالتك ومقاصدها عالياً بعد أن تطالها أيدي التشويه ولو بعد زمن طويل.

على أنني قد جعلت في تفاصيل زمني آيات لمن يأتي من بعدنا عن عماد العروة الوثقى التي تجمع ولا تفرق. لقد جعلت من أبنائي بأسماء من كان لك نصيراً كي يكون ذلك آية على كل الذكريات الجميلة المغفلة إلا من ذهني، وكي تكون أساساً للكلمة السواء التي ترضي الله وترضيك يا رسول الله في أمتك. فالعذاب كل العذاب لمن سقط في غشاوة من أمره فاتبع زينة الشيطان ولم يتلمس آيات الله في الكون والزمن. والعذاب كل العذاب لمن يولي الدبر للكلمة السواء التي سيشاؤها الله يوماً ما في أمتك. وكلاهما سيان، لست منهما في شيء.

واذا كان لا بد للشيطان أن يسود زمناً طويلاً، عسى أن يحسن الله سيادة كلمته في ذروة الزمن. وفي ذلك لا أبالي في سوء الحاضر، بل العبرة وكل العبرة في سيادة كلمة الله في المستقبل.

فلتطب نفسك يا رسول الله، فلا أبالي في كل العداوات التي ألقاها من أصحاب الجهالة. ولا أبالي في كل الإعراض الذي قد ألقاه من مناصر لي. أدعو الله أن يجعل لرجله في نهاية الزمن كل الصداقات وكل الالتفاف حوله، كي تكون كلمة الحسم لله لا لمن شط عن كلمة الله.

ادعُ لي يا رسول الله في عليائك أن ألقاك قريباً شهيداً، وما أعذب حلاوة الشهادة.

بأمان الله يا رسول الله.

رسائل إلى طفلتي فاطمة: الرسالة الثامنة

السبت في الثالث من أيلول 2022 الساعة الثانية صباحا

طفلتي العزيزة،

اعذريني على الانقطاع الطويل عن كتابة الرسائل لك، فقد مر ما يقرب من العامين من تاريخ الرسالة الماضية. لقد حدث الكتير منذ ذلك الوقت، من أجملها ولادة أخ لك السنة الماضية وقد أصبح عمره تسعة أشهر الآن. لا يمكنك أن تتخيلي ما أجملكما عندها تلعبان معاً وتجانبان بعضكما البعض. أقر لك بأن أعظم تقصير لي في الوقت الحالي هو في قلة شكري لله على ما وهبني، ولولا علمي برحمة الله واستبطائه على عبده لاستحال هذا التقصير إلى شعور بالذنب كبير وخوف من بلاءات تأتي من رحم الحياة. أنا مقرر في هذه اللحظة بأن أسعى إلى الله قدر الإمكان، وأن أكثر من شكره وحمده، سيما في ظل عقم الذهن الذي سقطت فيه مؤخراً مما سبب طاقة في كياني شديدة السلبية. جلي أن السموم التي تجتاح ذهني هي من نتاج عبث الشيطان وألا رد له إلا بالعكوف إلى الصلاة بشكل تام والإكثار من تسبيح الله وحمده، وأعظم تلك السموم ذلك الشعور بالمظلومية الذي يلف أركاني كل الوقت. ومن أعظم الخطأ أن يستحيل الشعور بالمظلومية إلى عائق أمام سيرورة الحياة.

أعترف لك أن طباعي لا تطاق في الوقت الراهن بسبب ما سردته أعلاه، وذلك واضح للعيان ولكل من يعايشني. وفي هذا السياق أود أن أعتذر منك وأن أطلب صفحك عندما تقرأين هذه الرسالة، لأني أنبتك بشدة من ساعتين لسبب تافه للغاية، وكان تأنيبي بشيء من الصراخ والانفعال. السبب كان مسح يديك بثيابك وأنت تأكلين ورق العنب المشبه بالدهون والزيوت، وذلك بعد أن كنت قد استحممت بمساعدة والدتك. بطبيعة الحال، أنت لم تتمي بعد عامك الثالث، وبديهي أنك لا تفقهين دواعي تأنيبي لك وقد رأيت ملامح الصدمة على وجهك. لكني بالرغم من ذلك انفعلت كأني أريدك أن تحافظي على نظافتك دون أن أعي أنك لا تمتلكين الوعي الكافي لتحقيق ذلك. سامحيني يا بنيتي فأنا إنسان ناقص، وأتمنى من كل قلبي أن أنجح في تربيتك بحكمة أكثر، وأن أكون بجنبك ناصحاً بالكلمة الطبية الهادئة اللينة.

وبعد هذا السرد اسمحي لي أن أقدم لك مرة أخرى قيمة في هذه الرسالة كما كل الرسائل السابقة. يجب أن تعلمي يا بنيتي أن الحياة صعبة وأن العوائق التي ستواجهينها إنما هي قاصمة لظهر أي بشر، وذلك شأنك وشأن الجميع. ولعلك قد تذكرين في رسالة سابقة أن دعوتك إلى انتقاء من يحيط بك بشكل حكيم ومتأن، لأن من تحيطين بك من الناس سيكون لهم دور كبير في بنيان حياتك  وصحتها وفي طموحاتك. ولعل أعظم هؤلاء هو من ستختارينه ليكون زوجك وشريك حياتك الذي ستقضين معه ربما وقتاً أكثر مما ستقضين معي. القيمة التي أود أن أنقلها لك تأتي كالتالي: تأني كثيراً في أي علاقة تبنيها مع رجل، واعلمي أن هكذا علاقة لا يمكن أن تنجح إلا اذا بنيت في سن الرشد، لأنها ستكون مبنية على مشاعر ناضجة وحب صادق ودراسة للمستقبل وتخطيط للارتباط بما يرضي الله. ما أعني به هنا هو أن تحجمي عن أي لهو في سن المراهقة، لأن كما وصفته لن يكون سوى لهواً، واعلمي أن المراهق لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يفقه ماهية الحب لأنه سن الطيش وقلة النضوج. تيقني يا بنيتي أن أغلب الظن في علاقات لهو المراهقين أنها منتهية بالسلبية، وأن آثارها ستطبع حياة الطائشين والطائشات طويلاً بالضير والشعور بالتفاهة. ضعي نصب عينيك هدفاً نبيلاً: أن يكون الرجل الذي ستتزوجين هو أول وآخر رجل في حياتك، وإن حصل ذلك سيكون باذن الله زواجكما متيناً مرضياً لكليكما. وسيكون من البديهي توصيتي لك أن تكون معايير اختيار الزوج في عقيدتك من المعايير الصافية القيّمة، وألا تكون من المعايير السطحية القشرية.

أدعو الله من كل قلبي أن يهب لك شريكاً محباً وفياً ذا قلب يفقه معاني الحب، صادقاً في رزقه الحلال، وأن يكون ممن يشترون آخرتهم بدنياهم.

أدعو الله أن يرزقك كل الخير، وأعظم الخير الشريك المؤمن العالم بدينه.

والله مجيب دعائي باذنه

كوني وردة، كوني نوراً، كوني فخراً لأبيك.

أبوك المحب دائماً.

رسائل إلى طفلي حسين: الرسالة الثانية

الإثنين في الخامس والعشرين من نيسان 2022 والرابع والعشرين من شهر رمضان

ولدي العزيز،

أكتب لك الرسالة الثانية وأنت متم شهرك الخامس بعد أربعة أيام بإذن الله. أكتب لك هذه الكلمات وفي نفسي حزن عميق وحسرة عظيمة على حياة أمضيتها بين الانفعالات وضيق الصدر وقلة الصبر. أنا أطمح إلى أن أنشئك على النقيض من ذلك، لعلمي أن جزءاً عظيماً من طباعي وقلة صبري نابعة من ماضٍ لم تكن نشأتي فيه على أتم ما يكون.

اعلم أنني كلما نظرت إليك الآن وكلما حملتك في حضني شعرت بلذة لا توصف. أنت بضعة مني، وأنت حامل دمي ونسبي، وولي عهدي. آمل أن يهبك الله الأبوة يوماً ما كي تشعر بما أشعر به تجاهك في زمن كتابة هذه الرسالة.

لا بد لك أن تعلم أن بعض حقبات حياتك ستكون حساسة للغاية لأنها حقبات يتسم فيها المرء بالجهل والطيش. لذلك إن قرأت هذه الكلمات وأنت في سن المراهقة، يجدر بك أن تعلم أن أباك وأمك يمتلكان منك جدارة الإصغاء، لأنك في هذه المرحلة تحتاج إلى الكثير من التوجيه والتوعية. عليك أن تعلم أن الجهالة لا تليق بك في أي زمن من مسيرتك في هذا العالم، لأنك تحمل نسباً استثنائياً أربأ بك أن تحمل معه ذنوباً مشينة.

اعذرني على تضارب الأفكار في الرسالة الأولى التي حملت مبالغة في سرد الأحداث، واعلم أنني إن طلبت منك أمراً فأنا لا أفعل ذلك بجو من الإملاء بل بشيء من النصيحة التي آمل أن تستقصي بنفسك معالمها وحيثياتها وأسبابها. فإذا ما تكلمنا عن السفر، اعلم أنني قمت به في ريعان شبابي دون تخطيط أو تمحيص بجوانبه وأثره المحتمل على حياتي. وقد يبين هنا القصور في نشأتي الذي جعلني في أول عمري كائناً ضبابياً يفتقر إلى الصلابة وإلى اكتمال الرشد والمنطق. ولو أكون بذات منطقي الحالي في اول عمري لما سافرت. وفي النهاية كل أحداث حياتي إنما هي من قضاء الله يوم نفخ الروح في جسدي وأنا في بطن أمي. واعلم أن شأنك سيكون ذات الشأن، فلا تحزن على أي شيء مما قد يصيبك في هذه الدنيا، بل ادعُ دائماً إلى الله ألا يكلك إلى نفسك كما دعوت أنا دائماً، لأن الله العليم بالغيب إنما هو أقدر من يهديك في مسيرتك بإذنه ورعايته.

أود أن أسألك الصفح في هذا المقام إن كان أي شيء مما قمت به في حياتي سيجلب أي أثر سلبي على حياتك. آمل ألا يحصل ذلك، لكني في الحقيقة قد اكتسبت عداوات تكاد لا تحصى، وبعضها يلقي بوطأته على كاهلي في الوقت الحالي بشكل متعب للغاية. قد أكون قد وهبتك بعضاً من الصداقات من ناحية اخرى، وهو أمر لا أعلم من حقيقته شيئاً لكنني أتلمس في بعض الأوقات شيئاً منه.

لطالما دعوت الله في شبابي بأن يهبني ذرية صالحةً حتى قبل أن أتعرف على والدتك. فإن حملت شيئاً من المودة لوالدك، كن تحقيقاً لهذا الدعاء، وأنا سأحاول أقصى جهدي كي أنشئك أفضل تنشئة تخوض فيها حياتك برضى الله وبالكثير من رزقه.

كن يا بني رجلاً مؤمناً، حافظ على إيمانك في كل مرحلة من مراحل حياتك، ولا تقم بخيارات سيئة تكسبك رضا الناس وتخسرك رضا الله.

كن نوراً. كن شهماً. كن فخراً لأبيك. أبوك المحب دائماً وأبدا.

مقدمة الهذيان

السبت في الثامن من كانون الثاني يناير 2022

لعل أصعب ما قد يمر به امرؤ هو الهذيان، فما بالكم بحال بشر قد أضحت حياته سلسلة من الهذيان المتواصل. في السياق يبدر الكثير من الرجل: سرعة الإنفعال، كثرة التشنج، فورة العصبية والغضب من المحيط لأصغر الأسباب، بعض من الشتائم التي يندى لها الجبين، وانهيار كينونة الإنسان بالكامل. لقد حصل أن دخلت دائرة تمني الفناء للفصيلة بأكملها، وكان ذلك قمة هذياني.

من المؤكد أن الناس يقعون في حيرة من أمري. لا يفقهون خفايا هذا الإنسان الرافض للبلاءات رفض الطفل لوصايا والديه. نعم، أنا أقر بأن البلاء هو بمثابة الدرس الذي يلقنه الله للإنسان، وهو الذي يدبر بعد كل بلاء انفراجات عظيمة تكون خليقة بصبر العباد. ومع إقراري بذلك، أعترف أيضاً بأنني لطالما امتهنت رفض الامتحانات الإلهية حد اقتراح نيل الفناء كفدية مقابل إحقاق الرحيل عن هذا العالم اللعين. لن يفقه أحد مغزى هكذا اقتراح على الذات الإلهية، ربما لأن الجميع يعتقد بأن العالم وساكنيه يمتلكون جدارة اللذة. سحقاً لذلك!

الهذيان ليس غريباً عن مجتمع البشر، لست بأول من يهذي ولن أكون الأخير. قد يذكر البعض نيتشه من جملة من مارس الهذيان بشكل منقطع النظير. بشر هذا الأخير باصطفاء الإنسان القوي ونظّر لموت الإله، كما سخر وطعن في كل الفلاسفة الأخلاقيين من مثال كانط. من الجلي لكم أيها المشاهدون على مسرح الحياة شدة الهذيان في هذين التبشير والتنظير. انتخاب الإنسان القوي سيعني بشكل أو بآخر نهاية الحياة البشرية على الكوكب، وموت الإله المراد يعني بشكل أو بآخر أن الإنسان قد لحق بركب الفناء إلى الأبد فلا آخرة ولا أرواح خالدة. في أيام خلت، كنت على النقيض من هذا الرجل بشكل صارخ. كنت من أعظم من حمل لواء الإيمان، وما تفوهت به شفتاي في بعض صلواتي كان صبواً إلى الإنسان المتسامي القوي بشهامته وأخلاقه والمتصالح مع الكون الذي يعيش فيه. إنه باختصار ذلك الإنسان الذي يثأر من الشيطان وجنوده الذين عاثوا في تاريخ البشر فساداً وإفساداً، وأعظم الثأر عودة أحلام المسيح المقدسة في نشوء مملكة الله على كوكب الأرض. إنه الإنسان الذي يزدري بالسلطة ويطمس المنتشين بها، وهو الذي ينادي بقوة الحق ويعلن على الملأ أن لا حق في القوة التي لا ترضي الله والتي تدمر دون أن تبني. إن الذين يبنون سلطانهم على تعاظم القوة وعلى تراكم قوة التدمير هم على النقيض من ذلك، وهؤلاء هم جنود الشيطان وعبيده، ذلك أن من يعتمد على قوة التدمير وسيلة لتكريس الواقع الذي يصبو إليه لن يصل إلا تدمير كوكب الأرض وقتل الحياة بكل أشكالها. الحقيقة هي أن هذيان نيتشه في تمجيده للإنسان القوي كان نابعاً من الجنون، فيما هذياني في الصبو إلى مملكة الله على الأرض ما كان نابعاً إلا من أحلام مقدسة، كان نصيب كل من حملها في كيانه في السابق القتل والتقطيع والصلب. لا جرم أن الإنسان القوي يمقت الإنسان الحالم. لا جرم أن نيتشه كان ليمقتني وأنا أصلي خاشعاً آناء الليل والدموع تنهمر من عينيّ. لكن ذلك لا ينفي أمراً جوهرياً، وهو أن الإنسان الحالم خالد بأحلامه في كل شكل من أشكال الحياة قد ينبثق بعد رحيل البشر، وكل ما عداه فانٍ عن حق، وذلك هو ثمن ازدرائهم لقداسة الروح والحياة.

لعل لكل هذيان أثمان باهظة. وآمل أن لا أدفع أثماناً تراكمت على هذياني.

ادعوا لي عند الله ذلك، قد أكون بحاجة لدعواتكم.

سيتبع الكثير عن الهذيان، فشدوا الأحزمة بشكل جيد.

رسائل إلى زوجتي: الرسالة الثالثة

الجمعة في السابع عشر من كانون الأول 2021

زوجتي العزيزة…

اسمحي لي أن أبدأ هذه الرسالة بطلب السماح منك لطول المدة التي غابت فيها رسائلي عنك. وأنا أقر بأن هذا القحط في الرسائل إنما فيه اجحاف لك وتقصير في أداء واجب لي تجاهك. وكم آمل أن تكون هذه الرسالة سبباً لرضاك ومدخلاً لتجديد علاقتنا وشراكتنا وترسيخ ما يجمعنا سوياً.

البارحة كانت الذكرى الخامسة لزواجنا العتيد، وقد تغيرت الكثير من الأمور منذ ذلك الوقت. لقد أصبح لنا طفلين، وفي ذلك أرى أمراً عظيماً وعلى درجة كبيرة من الجمال. ولعله يجدر بي أن أصارحك بأنني فخور بك على ما أظهرت من امتياز في الأمومة منذ ولادة فاطمة وحتى ولادة حسين. أنت تستحقين كل الأوسمة وكل التقدير على جدارتك في المسؤوليات التي تمارسينها، ومن الجدارة المرتبطة بعلاقتنا تحليك بالصبر في زواجنا فصبرت على الكثير من اللحظات العصيبة بالإضافة إلى العديد من اللحظات المحرجة التي كنت أنا سببها، أحياناً في وجود بعض أفراد عائلتك. لعله يجدر بي في هذا المقام أن أتلمس الصفح منك على هذه الإساءات، ومن تبصري في نظرات عينيك أعلم أن الصفح قد تم وأنك تكنين لي عظيم المودة.

لا بد من أنقل الكلام إلى استطلاع المستقبل، ولا شك أنك قد بدأت تتلمسين رأفة الله بنا حتى الآن ونعمه التي لا تحصى علينا، وأعظم هذه النعم هما هذان الطفلين الوديعين اللذان وهبهما الله لنا. وأنا أشاركك الرضا بجمال هذه الهبة وعظمة قضاء الله في عباده المؤمنين، ومن معرفتي بنفسي وبك قد أصل إلى التصريح بأننا جديرين بعطاء الله لأننا نملك كلينا نفسين مهذبتين وزاهدتين وقانعتين بكل ما يشاء الله. وفي هذا الصدد، اسمحي لي بأن أطلب منك بأن تكثري من الدعاء بالزهد والقناعة في حضرة الله، فادعي بالشكر لله على كل نعمه، وادعي بالزهد بكل ما يقضي لنا الله والقناعة فيه.

أدعوك إلى دوام الأمل من الله بكل الخير، مقرون بدوام الزهد بالله في كل بلاء. ولا يكلف الله إلا وسعها.

وفي الختام تقبلي مودتي وحبي واحترامي ورغبتي بدوام شراكتنا في هذه الحياة.

دمتِ زوجة عزيزة علي، مالكة لقلبي، وشريكة لحياتي.

دمتِ أماً جميلة لأطفالنا أغلى ما وهبه الله لنا.

دمتِ بكل خير وعافية إلى جانبي، وأدامني الله بكل خير وعافية إلى جانبكِ.

كل ذكرى لزوجنا ونحن معاً. زوجك المحب دائماَ.

رسائل إلى طفلي حسين: الرسالة الأولى

السبت في الحادي عشر من كانون الأول 2021 بعد منتصف الليل

بنيّ العزيز…

أكتب لك أول رسالة وقد ولدت  منذ عشرة أيام تقريباً. لعله يفترض لمستهل أي رسائل أن تكون تمهيدية لما هو جوهري، لكنها لن تكون كذلك، فأبوك عاجز عن تلطيف أفكاره وتسهيلها في مناسبة استقبال طفل في عمر أيام عشر. ما أنقله من عقلي إلى هذا النص سيكون مستهلاً للمزيد من الرسائل، وستكون كلها على ذات النسق مليئة بالمعاني والدروس التي آمل أن تأخذها بعين الإعتبار بأسلوب يجلب عليك بالمنفعة في مشوارك الدنيوي.

لعله يجدر بي أن أبدأ الرسالة بسرد ظروف واقعنا العائلي وما يحيط به في الوقت الحالي. اعذرني إن كان ما سيلي سيشعرك بالحزن، وآمل أن تكون ظروف وطنك لبنان في زمن قراءتك لهذه الرسالة أفضل من زمن كتابتها. الحقيقة هي أن وطنك يتعرض لأشرس حملة من قبل طغاة العصر في سبيل بيعه بأبخس الأثمان بالتواطؤ مع خونة من مسؤولي الدولة اللبنانية في الداخل. وستقرأ في يوم ما كيف أن هؤلاء المسؤولين قد وضعوا بالأصل حجر الأساس لعملية البيع هذه عندما قصدوا عدم بناء دولة قائمة على مؤسسات تحترم القانون، فكانت دوائر الدولة بكاملها مطوعة لأمر واحد: تكريس الواقع السياسي الفاسد الذي يحمي زعاماتهم ويضمن استمراريتها من خلال امتصاص أصول الدولة ونهب المال العام، الأمر الذي هدفه الأساس تمويل زعاماتهم الفاسدة ورهن الناس لهم على سبيل تأمين لقمة عيشهم بأساليب ملتوية.

وستقرأ يوماً ما يا بني عن أناس في هذا الوطن كانوا على النقيض من ذلك، فكانوا القلة التي أنجزت ما يفتخر به أي لبناني وطني ويحمل حب الوطن في قلبه، ألا وهو تحرير أرض لبنانية محتلة في الجنوب، مع ما استجلب ذلك من ثروة نفطية هائلة في المياة الإقليمية لهذا الجنوب تكاد تكون الأمل الوحيد لقيامة لبنان من جديد في ضوء ما يتعرض له من انهيار اقتصادي شامل إنما هو مهندس بطريقة غير مباشرة. ستقرأ يوما ما يا بني كم دفعت هذه الفئة القليلة عن لبنان من أخطار عظيمة، وستكون على علم إن شاء الله بكل ما خطط له من خناجر لتطعن هذه الفئة المقاومة في الظهر، وأعظم هذه الخناجر وسائل الإعلام التي تنشط حالياً بكل جهدها لتضليل الناس وتشويه الحقيقة وتغليب صورة معلبة للواقع في أذهان الرأي العام في لبنان. وأقر لك يا بني أنه إن نجحت كل مآربهم فقد نكون كلينا بخطر، لأن ذلك يعني تسليم لبنان للإمبراطورية فيصبح بلا إرادة ولا شأن ولا قانون فيه يحمي أي لبناني يعاند مشيئة الإمبراطورية. لكن يبقى الأمل بأن مشيئة الله أعظم من كل شيء.

وبالحديث عن الإمبراطورية، اعلم يا بني أن القدر شاء لي ولك أن نعيش ظروفاً استثنائية، وعماد هذه الظروف هو ذلك الدم الذي يجري في عروقك والجينات التي تحملها في خلاياك، وكلها تحمل لك نسبك الهاشمي المحمدي العلوي الذي هو أمانة في عنقك. دعني أسر لك أمنية لي أودعها هذه الرسالة، وهي مجرد أمنية لا أريدك أن ترى فيه أي إملاء ولا أمر. أتمنى عليك يا بني عندما تكبر أن تحمل نسبك في كفيك، وأن تعلم أن هذا النسب يملي عليك أن أمة جدك النبي أولى بك من باقي الأمم. أقول لك ذلك لمعرفتي بواقع الحال، وكيف أن بعض بلدان العالم هي قطب يجذب النخب من كل أنحاء العالم من أجل الدراسة والسمو في العلم. قد تشاء في زمن ما أن تسلك هذا السبيل فتلجأ إلى تلك البلدان على سبيل طلب العلم وربما الهجرة، ويجدر بك أن تعلم أنني سعيت إلى ذلك أيضاً في شبابي ولم أبلغ النضج بعد. وفي هذا المقام أود أن أنقل لك خلاصة تجربتي التي يجدر أن تتمعن بها جيداً. قد يجد المرء في تلك البلدان الكثير من أصحاب النفوس الطيبة، وقد يكون هؤلاء من غالبية الناس. قد تجد لك فيها أفضل الأصدقاء، بل قد تصل إلى مصادفة شريكة لحياتك هناك إن سارت الظروف بشكل يلائمك. وبعد تجربتي الشخصية المليئة بالمعاني والعبر كما بالإطلاع على منطق الشعوب وظروف الحياة، يجب أن تعلم أن الحياة في تلك البلدان لا تستقيم إلا بتخليك عن هويتك، وأعظم ما في هذه الهوية هو نسبك الهاشمي الذي أرفض لك أن تضعه جانباً.

قد تتساءل عن سبب وصولي إلى الخلاصة المعنية، وسيكون لك جواب على هذا التساؤل. يجدر بك أن تعلم أن تقرير المصير لم يكن بأي يوم من الأيام بأيدي الشعوب. ينطبق ذلك على أمة جدك التي تم استعمارها واحتلالها واختلاق الحدود بين أناسها – الجغرافية منها والطائفية – كما ينطبق حتى على كل أمم العالم. قال أحد معارفي في حضرتي أمراً تمعنت فيه جلياً: أن من يحكم العالم إنما هي عائلات من النخبة تتحكم في كل المقادير، وذلك في الدول الشمولية والديكتاتورية كما في الدول الديمقراطية على حد سواء. وهذه العائلات أضحت أساساً لما يسمى باللوبيات ونخب صنع القرار التي تسير العالم كما تشاء. ستسمع بالكثير من الويلات التي طالت أمة جدك، فكانت حرب طاحنة في سوريا، وكانت حرب مشينة في ليبيا، وكانت حرب في اليمن جوعت أطفاله حد الموت. ولو تحقق في كل هذه الحروب لوجدت أن وقودها في الإعلام والتمويل والتسليح كانت تلك الأمم المدعية للديمقراطية، ولو تسأل شعوب هذه الأمم عن رضاها عن ذلك للقيت نفياً من جزء كبير منها.

لقد أمضيت أربع أعوام في فرنسا على سبيل الدراسة، واصطدمت بواقع صعب عماده نسبي الهاشمي. ولا أنكر لك أنه قد طالني أذى عظيم في هذا البلد، ولا يخفى عليك أن السبب الأساس لهذا الأذى هو نسبي الهاشمي الذي هو عماد كياني وعقيدتي ويجدر أن يكون لك بذات الزخم. كان الأذى الذي لحق بي على مرأى ومسمع شريحة كبيرة من الناس ولم يحرك أحدهم ساكناً للدفع عني. تدرك من هذا الواقع أن النخب الحاكمة أعظم من أن يواجهها أحد، وأنها إن تضع أحداً نصب عينيها لا يمنعها أحد عن أذيته وطمسه، لا القانون ولا الناس. وآخر مثال أسرده لك هو مثال الحجاب الذي يثير الجدل في فرنسا، فالنخب تسعى بأشد جهدها لوضعه في تضاد مع ما يسمونه الثقافة الفرنسية، فيما هو مجرد قطعة قماش توضع على الرأس برضا المرأة قبل رضا أي فرد آخر. وقد يوافق جزء كبير من الشعب هناك على أن قطعة القماش هذه ليست بالإشكالية الكبيرة في البلد، وبالرغم من ذلك ترى الكثير من اللغط والتركيز الإعلامي على هذا الأمر، كما لو أن ارتداء قطعة القماش هذه ستطمس ثقافة بلد بأكمله. قد تقرأ يوماً ما عن مبدأ العلمانية، وآمل لك أن يكون التثقف من أبرز أهدافك. والخلاصة أن العلمانية بحلتها الأبهى تعني بشكل بديهي المساواة بين كل فئات الشعب في الحقوق والواجبات على أساس انتفاء الأيديولوجيات المفروضة على هذه الفئات، فتكون هوية الشعب قائمة على هذا الانتفاء، فترى الناس من كل الأعراق والديانات والخلفيات منصهرين في ثقافة واحدة متسامحة يغني كل منهم الآخر بعاداته وتقاليده. فيما تصبح العلمانية المشوهة التي تصر النخبة المقيتة على تكريسها أيديولوجيا بحد ذاتها ليتم فرض عادات وتقاليد من نمط واحد على كل الفئات، وتصبح عادة وضع قطعة قماش على الرأس مرفوضة.

بعد هذا السرد، لا بد أن أدعوك إلى أن تقرأ سلسلة التدوينات التي قمت بها تحت مسمى “ما هو الإسلام؟”، وفيها ذكرت بعضاً من عقيدتي في الوظيفة المرادة من الحجاب. ولا بد لك يا بني أن تبصر في هذه السلسلة صفاء الرسالة التي أرادها الله لجدك النبي، وكيف أن هذا الصفاء شوهه أولئك الذين نصبوا العداء له ولوصيه جدك الآخر الولي.

واعلم أن لا حياة لك إلا بالدين الذي ارتضاه الله للبشرية، وعماد هذا الدين لك هو نسبك الهاشمي.

واعلم أن هذا الدين ما هو من سجن ولا هو من أيديولوجيا ولا هو من وسائل السلطة. بل هو فضاء واسع يريد الله للمؤمن أن يسبح فيه كما يشاء. واعلم أنه عقيدة تحرر ولا تقيد، تسمو بالإنسان ولا تضعه أسفلاً، تصلح الكوكب ولا تفسده، تجمع بين الناس ولا تفرق بينهم. وكل ما يأتي باسم هذا الدين عكس ذلك إنما هو من إتيان البشر ووضعهم وهو افتراء على مقاصد الله في دينه.

ولعلك قد أبصرت أخيراً ذلك الواجب الإلهي المترتب عل كاهلك كي تحارب ما يأتي به البشر من تشويه لدين الله.

أنت تملك الجدارة بذلك، وستملك الإرادة أيضاً بإذن الله تعالى.

وفي الختام يا بني، كن حياةً لوطنك، كن سنداً لشعبك، كن نهضة لأمتك، فهؤلاء أولى الناس بك.

والدك المحب دائماً، والذاد عنك طالما يشاء الله.