الخميس في الثاني والعشرين من شباط 2024 الساعة السابعة مساءاً
طفلتي العزيزة،
أود أن أجعل هذه الرسالة مقاماً للتوصية بأمر فيه شفاء لك من كل سقم قد يلحقك في الدنيا. هذا الأمر إن منحني إياه الله فيك لاطمننت أني مخلف ورائي ذرية سليمة يجعل لها الله قسماً من السعادة والطمأنينة في الدنيا. الأمر المعني من شأنه أن يعرّف مفهوماً للسعادة إنما هو المفهوم الأصح، ولو تسألي أي ملهم خبير في قضايا الإنسان لأجاب بالإيماء على ذلك.
بداية الكلام هو في ظرف نعيشه كلنا كعائلة صغيرة على غاية عظيمة من الاستثنائية. كان من أثر هذا الظرف الكثير من السلبية في سلوكي، وهو أمر ذكرته في رسائل سابقة سائلاً إياك الصفح عن كل الغضب والعصبية التي حكمت حياتنا في صغرك. اعلمي يا صغيرتي أن هذا الظرف كان معاكساً لارادتي طوال حياتي، وكنت رافضاً له لأن طبيعته لها نتائج طبيعية في جعل حياتنا سلبية. وبواقع الحال، لا إرادة لي في هذا الظرف وهو بشكل ما جزء من قضاء الله لأمر عظيم قد يكون مخطوطاً في القدر. ومن نتائج هذا الظرف أنك أيضاً يا بنيتي مصطفاة من الله بطريقة أو بأخرى، وستعيشين واقعاً استثنائياً للغاية يجعلك عرضة للكثير من التحديات الجسيمة. واستشراف هذه التحديات هو جزء مما جعلني أعاند الظرف المعني محاولاً التحرر منه.
طفلتي العزيزة، أحد تلك التحديات الأعظم هو جعلك تحت المجهر وعلى مرأى ومسمع شريحة عظيمة من الناس. وهذا نوع من الإصطفاء الذي لا أدري ما سيكون موقفك منه عندما تكبرين. لطالما حاولت أنا التمرد على هذا الإصطفاء لكن دون جدوى. وأود أن أعلمك أن هذا التمرد قد أرهقني لدرجة السقوط في دوامة من العصبية الدائمة. نصيحة أقدمها لك هي ألا تحاولي أن تتمردي، وأن تعلمي ما لم أصل إليه أنا، ألا وهو استنباط وسائل الاستفادة من هذا الظرف لخدمة الله والحق ونفسك وعائلتك.
أحد التحديات الأخرى هو فرضية سقوط في التغرر بالدنيا إذا ما جمحت حالك إلى التطرف في الموقف. وهنا جوهر الأمر الذي أود أن أسأل الله في هذه الرسالة على مرأى منك، وهو أن لا تغتري بالدنيا لأي سبب من الأسباب وتحت أي ظرف. لعل الزمن الحاضر من أقسى الأزمنة على المربين، ذلك أن الأجيال الجديدة عرضة للكثير من الإغراءات الدنيوية التي قدرها الأول أن تعرضهم للسقوط والفشل. قد تغترين بالكثير من مشاهد نظرائك من الإناث المتبرجات بشتى أنواع الزينة الدنيوية، وقد ترغبين ذلك أيضاً. إن يكن بمقدورك، اقرأي مقالاً آخر كتبته في السابق على المدونة في سلسلة “ما هو الإسلام” أتكلم فيه عن مقصد الله في إملاء الحجاب على الأنثى. اقرأي ذلك المقال كي لا تقعي في كره المفهوم السائد والتقليدي للحجاب الذي قد لا تجديه محبباً.
اعلمي أن السعادة لا تكون في الدنيا، ولا في التبرج، ولا في اللبس الفاضح ولا في إغراء الرجال. السعادة لا تكون في السهر في الحفلات، والرقص، والاستماع للأغاني الصاخبة التي يغنيها زير نساء هنا وامرأة غانية هناك. السعادة لا تكون في مواعدة الرجال بالطرق المبتذلة في جو من المراهقة حتى عند البالغين. السعادة لا تكون في السعي إلى المال بصفته غاية بحد ذاتها. لن تجدي السعادة في أي من ذلك، بل لن تجدي في أي من ذلك إلا الكآبة والوضاعة والذل والعبودية لكل ما هو كريه.
السعادة تكون في القناعة بما يقسم لنا الله في الدنيا، وكما يقول المثل “القناعة كنز لا يفنى”. السعادة تكون في حفاظك على اتزانك ورصانك، الأمر الذي من شأنه أن يجعل لك مقاماً محموداً في الدنيا وشأناً عظيماً في الآخرة. والإتزان والرصانة يستوجبان الاحتشام في اللبس وترك التبرج ونبذ المراقص. السعادة تكون في الاستماع للموسيقى التي تضفي معنىً للحياة، من مثال ما يقربك من الله ويحيي وجدانك، وأول ما يؤشر على هذه الأمور هو هوية من يؤدي هذه الموسيقى، إن كان على درجة من الصدق ويشبهك في رصانتك واتزانك. السعادة تكون في التمعن في كل رجل يحاول التقرب منك وسبر أغواره والسؤال: “هل هو رجل لعوب أم رجل متزن؟”. اعلمي أن اختيار شريك حياتك هو أمر منوط بك وحدك، وأنني وأمك بصدد الاستشارة فقط. وأعلمي أن بقدر ما تكتسبين من علم وخلق حسن بقدر ما يجمعك الله بشريك من طينتك على قدر من العلم والخلق الحسن. ومن هنا التوصية الأخيرة، السعادة تكون في حب العلم، وإن تعرضي عن طلب العلم في أي وقت من الأوقات تتوقف حياتك وتكون سعادتك على المحك. كوني محبة للعلم على اختلاف أنواعه، واجتهدي في تحصيله تنالي كل السعادة التي تبتغين. أما المال فهو وسيلة من وسائل الحياة فلا تجعليه غاية بحد ذاتها. وهي وسيلة ستكون متاحة متى اكتسبتي قدراً كافياً من العلم.
حافظي يا بنيتي على حجابك فهو من أعظم ما يختصر كل ما جاء أعلاه، إنما يدل على ماهيتك الوجدانية والإيمانية والروحانية. الحجاب وسيلتك لترويض النفس البشرية المتغررة بالدنيا، إن حافظت عليه تحافظين على كل الإتزان والرصانة المتوجبة للنجاح في الحياة. ولا تظني إن الحجاب عائق بأي شكل من الأشكال على الخوض في الحياة، فإن صادفت وظيفة على سبيل المثال تضع حجابك منيعاً أمام ممارستها اعلمي أن تلك الوظيفة ليست بالأساس جديرة، وأن أصحابها عنصرين كريهين لا جدوى من العمل معهم. وإياك أن تقارني نفسك مع أي أحد من نظرائك وأقاربك، قارني نفسك مع الصورة التي يرضاها الله لك حصراً. ولعل أعظم وقود لحفاظك على حجابك هو اتخاذك القدوة الحسنة، وأعظم تلك القدوات هي المرأة التي تحملين اسمها وشهرتها، فاطمة الزهراء الهاشمية بنت نبيك فاجعليها ملهمة لك في أي صعوبات الحياة وتحدياتها.
قد يجعلك الله في ظل الظرف القائم أيضاً قدوة لنظرائك من الإناث. ومما أراه في محياك فأنت تمتلكين ملامح القيادة وكل مؤهلاتها. تختارنا بعض الأمور أحياناً في الحياة دون أن نختارها. وكما اختارتني بعض الظروف دون أن أختارها، قد اختارك الله بطريقة أو بأخرى للاصطفاء فتكونين مؤهلة للعب دور عظيم في الإلهام على مسرح الحياة. وما تختاره الحياة لك أرى من أمره أن يجعل لك شأناً عظيماً في الدنيا، فتبصري في ذلك ولا تعانديه. كوني على قدر الإسم والنسب اللذين تحملين، وعلى قدر الظرف الذي اصطفاك الله فيه. واعلمي أن مهما يحصل في الحياة سيكون خير. كنت أدعو الله في زمن مضى أنه لو قضى لي أن تذري الرياح ذرات جسمي فأختفي من الوجود لحمدته حمداً كثيراً. كل ما في قضاء الله محمود، وكل ما في بلاءاته اصطفاء ونعمة. فلا تقعي في ما وقعت فيه أنا من ضلال بسبب جرح عميق تملكني، وأتمنى لك كل الصحة والعافية بعيداً عن أي جرح وأي بلاء.
تبصري يا بنيتي في كل الكلام أعلاه، واعلمي أن فيه خلاصك في الدنيا والآخرة وفيه سعادتك المضمونة.
اصفحي عني يا طفلتي بسبب العصبية التي جعلتك تعيشينها في طفولتك. عسى أن أعوض عنك في الزمن القادم وعندما تكبرين.
تذكري دائماً أنني بجانبك ناصحاً محباً عطوفاً ذاداً حامياً مواكباً خائفاً عليك.
والدك المحب دائماً.
كوني نوراً، كوني وردة، كوني فخراً لأبيك.